الاستقامة

الشيخ محمد بن غيث

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}

أيها المسلمون:
كلامنا عن وصية جامعة لخصال الدِّين أمر الله بها نبيه ومن تاب معه من أهل الإيمان، وأمر بلزومها ما دامت الحياة في الإنسان، وجعل جزاءَها الثبات عند الممات، والفوز بالجنات.

إنها الاستقامة، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}.

قال الإمام ابن رجب رحمه الله: [ والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يَسْرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها ].

وأصل الاستقامةِ الاستقامةُ على التوحيد، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}

قال الصِّدِّيق رضي الله عنه: [لم يلتفتوا إلى إله غيره]، وعنه أنه قال: [ثم استقاموا على أن الله ربهم].

ولذلك قال سفيان بن عبد الله رضي الله عنه:
قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك. قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) رواه مسلم.

والاستقامة استقامة القلب، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: ((لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيمُ قلبه حتى يستقيم لسانه)) رواه الإمام أحمد وغيره.

وهذا فيه أن طريق الاستقامة: مُراعاةُ ما يدخل القلب، وأن اللسان هو أصل صلاح القلب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان –أي تخضع له وتذل– فتقول اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد.

فصلاح القلب صلاح الجسد، وصلاح الجسد صلاح العمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) متفق عليه.

وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).

فالله ينظر إلى القلوب، ولا ينفع منها عنده إلا من استقام وسلِم {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}

قال الحسن رحمه الله: [ داوِ قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ].

وقال العلامة ابن رجب: [ أفضل الناس من سلك طريق النبي ﷺ وخواصِّ أصحابه في الاجتهاد في الأحوال القلبية، فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان ].

أيها الناس:
إن القلوب لتحيا بالطاعة واجتناب المعصية، وإنها لتمرض أو تموت إذا انحرفت عن الحق وقارفت الحرام.

{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}

فانحراف القلب عن الاستقامة مرض وموت وهلاك، ولذلك قال الله: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}

وقال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

فأَمَرَه أن يستقيم هو ومن تابعه، وألا يتجاوزوا ما أُمروا به وهو الطغيان، وأخبر أنه بصير بأعمالهم مطلع عليها، بل أمر بإقامة الدين عمومًا فقال سبحانه: {أن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}

وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}

وهذا فيه إشارة إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة، إذ قَرَنَها بالاستغفار، فيجب ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة والرُّجوع إلى الاستقامة.

وقد أخبر النبي ﷺ بذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((استقيموا ولن تحصوا)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه.

فهذا يدل على أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة.

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري وغيره: ((سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).

فالسداد حقيقته الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرض فيصيبه.

كما في صحيح مسلم، قال علي رضي الله عنه: قال لي رسول الله ﷺ: (اللهم اهدني وسدّدني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم).

والمقاربة أن يصيب ما قَرُبَ من الغرض
قال العلماء: [ ولكن بشرط أن يكون مَصَمِّمًا على قصد السداد وإصابة الغرض ].

ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الحكم بن حزم: ((أيها الناس، إنكم لن تعملوا كل ما أمرتكم، ولكن سدّدوا وأبشروا)).

وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس، خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)) متفق عليه.

ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: [ وكان آل محمد ﷺ إذا عملوا عملاً أثبتوه ].

فداوِموا وأثبتوا وقاربوا وسدّدوا، ثم أبشروا.

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ﷺ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد أيها الناس:

روى الترمذي وابن ماجه عن سفيانَ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، حدّثني بأمر أعتصم به. قال: ((قل ربي الله ثم استقم))
قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا)).

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال:
قال لي رسول الله ﷺ: (يا شدادَ بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فأكثر هؤلاء الكلمات:
اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب) رواه الطبراني وغيره.

هذه وصية نبيكم ﷺ، فالثبات، الثبات في الأمر.

قالت أمُّ سلمة رضي الله عنها: كان أكثر دعاء النبي ﷺ: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)).
فقيل له في ذلك، فقال: ((إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)) نعوذ بالله من ذلك.

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}

فأبشروا وأملوا، وسدّدوا وقاربوا، {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

فالاستقامة، الاستقامة، والثبات، الثبات.

الدعاء ...