الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدالله ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{يا أيها الناس، اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً}.
{يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
أما بعد: فان أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134) }
أيها الناس، كلامنا عن الإمارة وإنها إمارة وأمانة، وإن الله سائل كل راعٍ عمّا استَرْعَاه، أحفظ أم ضيع؟.
فالإمارات تكليف ومسؤولية، يشترط لها العلم والأمانة والقوة.
قال الله عز وجل عن نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام: { اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }
والحفيظ: الأمين الذي لا يُضَيِّعُ منه شيئاً في غير محله.
والعليم: البصير بكيفية تدبير العمل بحيث يقوم به على التمام.
وقال الله تعالى عن كريمه موسى عليه السلام:
{ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }
والقوي هو: القادر على القيام بما وُكل إليه، والأمين: القائم بالحق.
فهذان وصفان للعامل: القوة والأمانة.
قال العلماء: ينبغي اعتبارهما في كل من يقوم بعمل، لأن العمل لا يتم ويكمل إلا باجتماعهما.
فالضعيف والجاهل لا يتولى المسؤولية، والمفرِّط وضعيف الأمانة لا يتولى المسؤولية.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إنّي أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَ مال يتيم) [رواه الإمام مسلم]
تأملوا أيها المسلمون، يا أبا ذر، إنّي أراك ضعيفاً… وهذا الأمر يصعب مواجهة الشخص به، ولكن الأمانة والنصح يقتضيان ذلك، وهذا فيه أن إبداء العيوب للمنصوح من باب النصيحة لا حرج فيه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام مطمئناً له: "وإني أحب لك ما أحب لنفسي"، وهذا من حسن خُلق النبي عليه الصلاة والسلام، أي: أني لم أقل لك ذلك إلا لأنّي أحب لك ما أحب لنفسي.
ولا تَأَمَّرَنَ على اثنين، أي: لا تكن أميراً على اثنين، لأنه ضعيف و الإمارة والمسؤولية تحتاج إلى قوي، لأن الناس إذا استضعفوا الشخص لم تبق له حرمة عندهم.
ولا تَوَلَّيَنَ مال يتيم، وذلك أنه يحتاج إلى حفظ وأمانة وعلم، فالتولي ولو على مال اليتيم مسؤولية سيُسأل عنها الإنسان.
ولذلك في رواية أخرى قال أبو ذر رضي الله عنه: (يا رسول الله، ألا تَسْتَعْمِلُنِي؟) فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) [رواه الإمام مسلم]
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائل كل راعٍ عمّا استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه؟، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) .
فكل من أوكل إليه عمل وإدارة فهو مسؤول عنه يوم القيامة أمام الله، أحفظ أم ضيع؟.
يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل ولي عشرة إلا أُتِيَ به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يُقضى بينه وبينهم)
وفي رواية: (إلا يُؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يُوبقه الجور)
وقال عليه الصلاة والسلام: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاحتجب دون خلّتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة)
وفي رواية أخرى: (إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلّته وحاجته) [و الأحاديث في السلسلة الصحيحة]
فانتبهوا أيها الناس، كل مسؤول عن أمر فهو عليه وال :
فالأب وال على أهل بيته، وسيسأل.
والمدير وال على إدارته، وسيسأل.
(ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)
فالولايات تكليف، وليُعلم أن قرار الترقي في الدرجات العلى وفي سلالم الوظائف، نعم، والإدارات والمسؤوليات ليس بمحمود في شرعنا إلا إذا دعت حاجة عامة وتعين الأمر على شخص، وإلا فالسائل لا يُوفَّق في مسؤوليته.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الرحمن بن سَمُرَه، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعْطِيتَها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها، وإن أُعْطِيتَها عن مسألة أوكلت إليها) [متفق عليه]
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين.
فالله الله في الوظائف والإدارات، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن رجالاً يتخوضون -أي : يتصرفون في مال الله بغير حق-، فلهم النار يوم القيامة)
[رواه البخاري في الصحيح]
هذا عند فقد الأمانة والعلم: {إني حفيظ عليم}
وأما مع الحفظ والقيام بالحق، فقال عليه الصلاة والسلام: (العامل إذا استُعمل فأخذ الحق وأعطى الحق، لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته) [رواه الطبراني في الكبير، وهو في صحيح الترغيب]
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (73))
أقول ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس، روى الإمام البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة) فقال أعرابي: كيف إضاعتها؟
قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)
فالقيام بالعمل من أهله وعلى وجهه هو عنوان التقدم والصلاح، وخلاف ذلك هلاك للأمة وللناس.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن]
وإتقان العمل: القيام به على وجهه، من غير تقصير ولا مداهنة، وإنما بعلم وحزم وأمانة وقوة.
قال عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله)
وفي رواية: (رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس)
وفي رواية أخرى: (سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) [رواه الترمذي وغيره]
وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير تردى في بئر، فهو ينزع منه بذنبه) أي: لا سبيل لنجاته [رواه أبو داود وابن حبان]
فلا تعن أحداً على غير الحق، ولو كان أقرب قريب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. }.
وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }.
الدعاء …