الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرَه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمَّا بعد:
فيا أيها المسلمون عبادَ الله، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}.
قال ابن كثيرٍ رحمه الله عند تفسير هذه الآية: [ قد أخبر الله العظيم أنَّه قد رضيَ عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويلَ من سبَّهم أو أبغضَهم أو سبَّ بعضَهم أو أبغضَ بعضَهم، إنهم صحابةُ رسولِ الله ﷺ الذين هم أفضلُ هذه الأمة، أبرُّها قلوبًا وأعمقُها علمًا وأقلُّها تكلُّفًا، اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ولإقامة دينه ].
ألا فاعرفوا – يا عباد الله – قدرَهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسِيَرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وأفضلُ الصحابة أبو بكرٍ ثم عمر، وزيرا نبينا ﷺ، وإن أهل السُّنَّة والجماعة قد اتفقوا على أنَّهما أفضلُ الناس بعد الأنبياء والمرسلين، وينبغي على المسلم أن يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا.
وليعلَم بعد ذلك أنَّ من سبَّ عمر أو طعن فيه أو لعنه أو كفَّره، فإنَّه زنديقٌ رافضيٌّ خبيث.
أُحدِّثكم – عباد الله – عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي لُقِّب بالفاروق لأنَّ الله عز وجل فرَّق به بين الحق والباطل.
إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو أوَّلُ من جهر بالإسلام بمكة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
ولقد دعا له رسول الله ﷺ فقال: ((اللهم أعِزَّ الدين بأحبِّ هذين الرجلين إليك: أبي جهل بن هشام أو عمر بن الخطاب)).
قال عبد الله بن عمر الذي روى ذلك: [فكان أحبَّهما إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه].
ولقد أثنى نبينا ﷺ على عمر في مواضع عديدة، ومنها عند قوله ﷺ: ((كان فيمن قبلكم مُحدَّثون -أي مُلهمون- وإن يكُن في أمتي أحدٌ فإنه عمر)).
ولذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه يرى رأيًا فينزل القرآن بموافقته، وقد قال ﷺ: ((إن الله قد وضع الحق على لسان عمر يقول به)).
ومن ذلك أنَّ عمر قال للنبي ﷺ: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مُصلّى، فنزل قول الله جل وعلا: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}.
وكذلك لما قال لنبينا ﷺ: يا رسول الله لو أمرتَ نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب.
إنه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الذي شهد له رسول الله ﷺ بالجنة. بل ولقد رأى رسول الله ﷺ قصر عمر في الجنة فهمَّ بأن يدخله، فلما تذكَّر غَيْرة عمر ولَّى مدبرًا، فلما ذكر لعمر ذلك قال: أعليك أغار يا رسول الله؟
إنه عمر بن الخطاب الذي شهد له رسول الله ﷺ بالشهادة والإيمان والعلم.
أما الشهادة: فعن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ صَعِد أُحُدًا وأبو بكرٍ وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال: (اثبت أُحُد، فإنما عليك نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدان).
والشهيدان هما عمر وعثمان رضي الله عنهما، فبشَّر النبي ﷺ عمر بأنه يموت شهيدًا، وقد تحقَّق ذلك.
وأما ما يتعلَّق بالشهادة له بالإيمان، فقد قال عمر للنبي ﷺ: لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال ﷺ: ((والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك)). قال: فإنه الآن واللهِ لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال ﷺ: ((الآن يا عمر، الآن يكمُل إيمانك)).
وهي شهادة له بالإيمان ومثل ذلك حين حدث ﷺ بالذئب الذي تكلم مع الراعي و البقرة التي تكلمت مع صاحبها فقالت له إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث حتى قال الناس سبحان الله متعجبين من ذئب وبقرة يتكلمان فقال ﷺ: (( فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر )) وهي شهادة له بالإيمان.
وأما الشهادة له بالعلم، فقد قال ﷺ: ((بينا أنا نائمٌ شربتُ اللبن حتى أنظر إلى الريِّ يجري تحت أظفاري، ثم ناولتُه عمر، فقالوا: بما أولتَه: قال بالعلم)).
وهي شهادة لعمر رضي الله عنه بالعلم.
إن العلم الذي منَّ الله به على عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه هو الذي جعل له مواقف عظيمة في حياة النبي ﷺ ومن بعد موته عليه الصلاة والسلام.
ومن أعظم المواقف أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يحمل الناس على العقيدة الصحيحة، وكان حريصًا على حماية جناب التوحيد.
إنه -يا عباد الله- قد قبَّل الحجرَ الأسود مرةً فقال:
«إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله ﷺ يقبِّلك ما قبَّلتُك».
إنه يقول هذا -عباد الله- ليبيِّن للناس أن تقبيل الحجر إنما هو لأجل اتباع نبينا ﷺ، فلما كان الناس حديثُ عهدٍ بعبادة الأصنام خشي عمر رضي الله عنه أن يعظِّم الناس الحجرَ كما يعظِّمون الأحجار، فبيَّن لهم أن الأمر إنما هو اتباعٌ لفعل نبينا ﷺ.
وهكذا أيضًا حينما بلغه أن قومًا يجتمعون عند شجرة الرضوان التي كانت تحتها بيعة الرضوان، فزجرهم عمر وتوعَّدهم، وأمر بقطعها فقُطعت.
ومرَّة كان في سفرٍ رضي الله عنه، فرأى الناس ينتابون مكانًا يصلُّون فيه، فقال: ما هذا؟
قالوا: هذا مكان صلَّى فيه رسول الله ﷺ.
فقال عمر: ((إنما هلَك من كان قبلكم بهذا، اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصلِّ، وإلا فليمضِ)).
إن عمر رضي الله تعالى عنه في هذا الموقف العظيم كان حريصًا على حماية جناب التوحيد، قاطعًا لموارد الفتن.
وحينما صار خليفةً على المسلمين وأميرًا للمؤمنين، ضرب المثل الأعلى -يا عباد الله- في العدل بين الرعية، فإن من حقِّ الرعية على الراعي أن يحكمهم بالعدل والحق، وأن لا يظلمهم، وإن ذلك لا يكون إلا في ظلِّ حكم الله سبحانه وتعالى وما أنزل جلَّ في علاه، لقوله سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وقوله جل وعلا: {يا داوودُ إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلَّك عن سبيل الله} وقوله جل وعلا: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (نزلت هذه الآية في وُلاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانة إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل).
وكذلكم كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، كان وقَّافًا عند كلام الله سبحانه وتعالى لا يتجاوزه عملًا ولا حكمًا.
ومن أمثلة ذلك: أنه جاءه مرةً عيينةُ بن حصن، فقال له: يا ابن الخطاب، إنك لا تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل.
فغضب عمر حتى كاد أن يوقع به العقوبة، فقال له الحرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل قال لنبيه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين.
فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها، وهو الوقاف عند كلام الله عز وجل عملًا به وتحاكمًا إليه.
ولذلك كان حريصًا على العدل بين الرعية رضي الله تعالى عنه وأرضاه، بل كان يحرص على اختيار الولاة الأكفاء، ويقبل شكاوى الناس فيهم.
فلقد شكا أهل الكوفة سعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنه، فعزله عمر وولّى عليهم عمارًا، ثم قالوا: إن سعدًا لا يُحسن الصلاة، فقال له عمر: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تُحسن الصلاة؟
قال: أما أنا فأصلِّي بهم صلاةَ رسول الله ﷺ، لا أخرم منها شيئًا، أُطيل في الأوليين وأُخفِّف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظنُّ بك يا أبا إسحاق.
ثم أرسل عمر من يسأل عنه في المساجد، فسألوا الناس في الكوفة، فكلهم يثنون عليه خيرًا إلا رجلًا من بني عبس يُقال له أُسامة بن قتادة، قال: إن سعدًا لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية.
فقال سعد رضي الله عنه: أما واللهِ لأدعونَّ ثلاثًا، اللهم إن كان عبدُك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعةً، فأطلْ عمرَه، وأطلْ فقرَه، وعرِّضْه للفتن.
قال الراوي: فكان يقول عن نفسه: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، وكان يُقال: شيخٌ مفتونٌ أصابته دعوة سعد، وكيف لا تُستجاب دعوته، وقد قال النبي ﷺ: (اللهم استجب لسعد إذا دعاك).
والشاهد -عباد الله- أن الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه كان مضربَ المثل في عدله وتقواه، لأنه يتقي الله جل وعلا في الرعية، ويخشى أن يُسأل عن الأمانة يوم القيامة.
إنه خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان شديدا في الحق، بل كان الشيطان يخاف منه.
وقد قال النبي ﷺ: ((والذي نفسي بيده، ما رآك الشيطانُ سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّك)).
وقال ﷺ: ((لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمرُ بن الخطاب)).
عباد الله، إنها فضائل عظيمة لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومع ذلك فإنك تجد الزنادقةَ والشيعة الروافضَ يطعنون فيه ويسبونَه ويلعنونه ويكفِّرونه.
وإن من يلعن عمر أو أبا بكر أو أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- فإنما يريد بذلك الطعنَ في رسول الله ﷺ، كأنما يقول بلسان حاله: لو كان صالحًا لكان أصحابه صالحين.
ويرحم الله محمدَ بن سيرين إذ قال: ((لا أظنُّ أن رجلًا ينتقص أبا بكرٍ وعمر يحبُّ رسولَ الله ﷺ)).
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، ارضَ عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمَّا بعد:
فيا أيها المسلمون عبادَ الله، إنَّ نبينا ﷺ قد بشَّر عمرَ بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بالشهادة فتحقَّق له ذلك، ومات شهيدًا رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
فلقد طعنه أبو لؤلؤة المجوسي عليه من الله ما يستحق، وهو يُصلِّي، فمات شهيدًا.
أبو لؤلؤة المجوسي الذي لا يزال الشيعةُ الروافض إلى يومنا هذا يحتفون به لأنه قاتل عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وحين بُشِّر عمرُ بالشهادة كان يستعدُّ لذلك اليوم، يستعدُّ للقاء الله سبحانه وتعالى، فكان يقول رضي الله تعالى عنه: [كلُّ يومٍ يُقال: مات فلان ومات فلان، ولا بد أن يأتي يومٌ يُقال فيه: مات عمر].
وكان يدعو الله عز وجل فيقول: [اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك ﷺ].
فتحقَّق له ذلك، وأجاب الله جل وعلا دعاءه.
وإنه رضي الله تعالى عنه قد كان كثيرَ المحاسبة لنفسه، وهو القائل: [حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا، وتزيَّنوا ليومِ العرض على الله، {يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية}].
سبحان الله! وهو أميرُ المؤمنين، وخليفةٌ على المسلمين، وله البشاراتُ النبوية بالجنة والشهادة والعلم والدين والإيمان، ومع ذلك كان كثيرَ المحاسبة لنفسه، خائفًا أن يلقى الله جل وعلا بذنوب، لا يأمن نفسه أن يكون من أهل النفاق حتى يسأل صاحب سر رسول الله ﷺ [حذيفةَ بن اليمان فيقول له] : هل ذكرني رسول الله ﷺ من المنافقين؟
ومرَّةً كان مع رعيته في حاجا، فلما قرب من مكة جلس يتذكَّر ماضيه فقال: [لا إله إلا الله العظيم، يَرزُق من يشاء ما يشاء، كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مذرعة صوف، وكان يُتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وأمسيتُ وليس بيني وبين الله أحد].
وكان يتمثَّل بهذه الأبيات:
لا شيءَ في ما ترى تبقى بشاشتُهُ *** يبقى الإلهُ ويفنى المالُ والولدُ
لم تُغْنِ عن هُرْمُزٍ يومًا خزائنُهُ *** والخلدَ قد حاولتْ عادٌ فما خلَدوا
ولا سليمانُ إذْ تُجري الرياحُ لهُ *** والإنسُ والجنُّ فيما بينها تَرِدُ
أينَ الملوكُ التي كانت لعزَّتِها *** من كلِّ أوبٍ إليها وافدٌ يفِدُ
حوضٌ هنالكَ مورودٌ بلا كذبٍ *** لا بُدَّ من ورْدِهِ يومًا كما وردوا
وإن مداومته لمحاسبة نفسه استمرت معه حتى في آخر لحظات حياته، وضع عبدُالله ابنه رأسه على فخذه رضي الله عنهما فقال له : يا بني ضع رأسي على الأرض. فقال عبدالله: يا أبتاه فخذي والأرض سواء. فقال: ضع رأسي على الأرض لا أم لك. قال ابن عمر فسمعته يقول: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي.
كلامٌ يقوله من؟ من بُشِّر بالجنة والشهادة، وشهد له رسول الله ﷺ بالعلم والدين والإيمان، ومع ذلك يقول: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي!
هكذا كان عمر، وهكذا كان سلف الأمة -رحمهم الله- يحاسبون أنفسهم في الدنيا، فخفَّت عليهم المحاسبة يوم القيامة.
أما نحن –عباد الله– حين غفلنا عن محاسبة أنفسنا والمداومة على ذلك، كَبُرت علينا المحاسبة.
أمَا إننا إن لم نحاسب أنفسنا، فإننا نخاف –يا عباد الله– أن نُفجع يوم القيامة ونفجع بما لم نكن نحتسب، كما قال جل وعلا: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.
الدعاء...