غنائم يوم الجمعة

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

الحمد لله العليم الحكيم الواحد القهار، يخلق ما يشاء ويختار، فضل من الأيام يوما وجعل لنا عبرة في الليل والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله أعد الجنة للمتقين الأبرار، وأعد جهنم للظالمين الكفار، وتوعد عصاة الموحدين بالنار، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى المختار، صلى الله عليه وسلم عدد ما خلق الله من صلصال كالفخار، ورضي الله عن أهله الطيبين الأطهار، وصحابته الأكرمين الأخيار.

أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بالتوحيد فهو العروة الوثقى، واتبعوا هدى ربكم، فمن تبع هدى ربنا فلا يضل ولا يشقى، {يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.

عباد الله، عباد الله، علمت الأمم الماضية أن يوما أفضلُ من غيره من الأيام، وفيه خيرٌ كثير، فاجتهدتْ في طلبه، فأضلها الله عنه، وادخره لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال نبينا ﷺ: «أضل الله عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد، وجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة» .

هذا اليوم يا عباد الله من أفضل أيام المسلمين خيرا، وهو خير يوم طلعت فيه الشمس، قال نبينا ﷺ: «إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة فيه خلق ادم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة» .

وقال ﷺ: «خير يوم طلعت فيه الشمس يومُ الجمعة فيه خلق أدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يومَ الجمعة».

هذا اليومُ يا عباد الله جعله الله لكم عيدا، فيشرع للمؤمن إذا أتى صلاة الجمعة أن يأتيها في نظافة وهيئة حسنة، قال النبي -ﷺ- في جمعة من الجمع: «إن هذا اليومَ عيد للمسلمين فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان من طيب فليمس منه وعليكم بالسواك».

وجاء جبريل عليه السلام بيوم الجمعة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، في كفه كالمِرْآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء، فقال نبينا ﷺ: ما هذا يا جبرائيل؟ قال عليه السلام: «هذه الجمعة يَعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير» .

هذا اليوم يا عباد الله فيه غنائم عظيمة، وأجور كريمة، بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل صلاة الجمعة الذين يعتنون بها ويهتمون لشأنها، فقال ﷺ: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام»

فمن توضأ وأحسن وضوئه في ذلك اليوم، وإن جمع مع ذلك الغسل فهو أطيب وأكمل، ثم خرج إلى الجمعة، في سكينة ووقار، وحسن سمت وحسن هيئة حتى أتى المسجد وبقي يذكر الله ولم يفرق بين اثنين، فلما حضر الإمام استجمع قلبه وأحضر سمعه فاستمع وأنصت، غفرت له صغائر عشرة أيام ما بين الجمعة والجمعة التي تليها، مع زيادة ثلاثة أيام.

وقال نبينا ﷺ حاثا ومبشرا: «من غسّل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها»، ثبت هذا عن رسولنا ﷺ (من غَسَّل واغتسل)، وفي رواية أو تُضبط (من غسَل واغتسل)، ومعنى (من غسّل واغتسل):

قال بعض العلماء: هما بمعنى واحد لزيادة التأكيد على الاهتمام بالنظافة.

وقال بعض العلماء: معنى غسّل أنه جامع زوجته إن كانت له زوجة، فتسبب في أن تغتسل واغتسل هو من الجمعة والجنابة، أما مع التخفيف أعني من غسَل.

فقال بعض العلماء: أن المعنى من غسَل ثوبه واغتسل في جسده.

وقال بعض العلماء: من غسَل رأسه زيادة في الاهتمام به واغتسل في بقية بدنه.

وقال بعض العلماء: من غسَل أي من جامع زوجته، يقال: غسَل الرجل زوجته أي جامعها واغتسل هو غُسل الجنابة والجمعة، ومن جاء بكل الأقوال إن أمكنه هذا فهذا شيء حسن.

(وبكَّر وابتكر)، (بكّر) أي ذهب مبكرا إلى صلاة الجمعة، وكلما بكّر كان ذلك أحسن له، فمن ذهب فمن راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، والملائكة على أبواب المساجد يكتبون المصلين الأول فالأول، فإذا حضر الإمام طووا الصُّحف ودخلوا يستمعون الذكر، هكذا أخبرنا رسولنا ﷺ، (وابتكر).

قال بعض العلماء: هما بمعنى واحد لزيادة التأكيد على التبكير.

وقال بعض العلماء: معنى ابتكر حضر الخطبة من أولها فلم يفته شيء من الخطبة.

وقال بعض العلماء: معنى ابتكر أي تصدق في ذلك اليوم، ومن فعل كل ذلك فحسن.

(ومشى ولم يركب)، أي مشى على رجليه ولم يركب، فقوله ﷺ (ولم يركب) لبيان أن المقصودَ بالمشي هو المشي على القدمين، وليس السعيَ ولو كان راكبا، فمن مشى من بيته حتى وصل المسجد ولم يركب دخل هذا الفضل، ومن كان لا يستطيع ذلك لمانع يمنعه، فاقترب بسيارته إلى المكان الذي يستطيع أن يمشي منه إلى المسجد، فإني أرجو الله عز وجل أن يَدخل في هذا الفضل، لأن قواعد الشريعة تدل على ذلك.

(ودنا من الإمام)، فحرِص على الصفوف الأولى، وتقدم إلى المسجد، واستمع للخطبة، أحضر قلبه، وأحضر سمعه، واستمع للخطبة لينتفع بها، وليستفيد منها، ولم يلغ، فلم ينشغل بمس الحصى، ولم ينشغل بقارورة المياه، ولم ينشغل بساعته، ولم ينشغل بمن حوله، وإنما كان اهتمامه كله مع الخطيب يستمع الذكر لينتفع به، ما ثوابه يا عباد الله؟، كان له بكل خطوة عمل سنة، فُسِّر هذا في الحديث، أجر صيامها وقيامها، ففي كل خطوة كأنه صام سنة كاملة وقام سنة كاملة.

الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم البِشارة! وما أصدق المُبَشر ﷺ، فهل عملنا بهذا يا عباد الله؟ هل عملنا بهذه الأعمال ولو مرة في السنة يا عباد الله؟ .

الله الله، عباد الله، احرصوا على العمل بهذا الحديث ولو مرة في أعماركم أو مرة في عامكم، فإن لكم في ذلك أجرا كريما وسبقا عظيما، أسأل ربي أن يهديني وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من السباقين المسارعين إلى الخيرات.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد، فيا عباد الله إن من الغنائم العظيمة في يوم الجمعة، أن الله جعل للمؤمنين ساعة يَعظُم فيها رَجاءُ إجابة الدعاء، فلا يَسأل فيها مسلمٌ خيرا إلا أُعطيه أو خيرا منه، ولا يستعيذ فيها مسلم من شر إلا دُفع عنه أو أعظم منه.

قال النبي -ﷺ- عن يوم الجمعة: «فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» وكان ﷺ يقللها.

(إن فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي) قال العلماء: أي أنه صلى الفرض وبقي في المسجد يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه سبحانه وتعالى.

وأقوى ما قيل في هذه الساعة يا عباد الله قولان:

- القول الأول: أنها ما بين صعود الإمام على المنبر إلى الفراغ من صلاة الجمعة.

- والقول الثاني: وهو أقوى من القول الأول، أنها ما بين العصر والمغرب، جاء هذا في عدد من الأحاديث التي قواها بعض أهل العلم، وثبتت عن بعض صحابة رسول الله، وثبت ذلك عن بعض صحابة رسول الله ﷺ .

فلو أن المسلم الزكي فعل كما كان يفعل بعض السلف يحضرون الجمعة مبكرين ويستمعون ويدعون عند سكتات الخطيب ونحو ذلك، وفي صلاة الجمعة، ثم إذا صلى العصر بقي في المسجد لا يشتغل إلا بالدعاء حتى يؤذِّن المغرب لكان في خير عظيم.

عباد الله، عباد الله، إن من الغنائم العظيمة في يوم الجمعة أن نكثر من الصلاة على رسولنا ﷺ، فقد قال نبينا ﷺ: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن من صلى علي صلاةً صلى الله عليه عشرا».


وقال ﷺ: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق ادم، وفيه قبض، وفيه الصعقة، وفيه النفخة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرض صلاتك علينا وقد أرَمت -أي بليت-؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .

اعلم يا عبد الله أنك إذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فإن ملكا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم موَكل بأن يَعرض عليه صلاتَك في ذلك اليوم، ويقول له: هذه صلاة فلان بن فلان عليك.

فيا عبد الله يا عبد الله! انظر كيف يعرض ذلك على رسول الله ﷺ، أفلا تستحي أن تكون من أقل الناس عرضا على رسول الله ﷺ في ذلك اليوم؟ أعني عرضَ اسمك بذكر صلاتك.

إذا أردت أن يَكثر عرض اسمك على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فأكثر من الصلاة عليه ﷺ.

[ الصلاة على النبي ﷺ ، ثم الدعاء .... ]