احذر الشرك يا عبد الله

الشيخ خالد بن ضحوي الظفيري

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نعبده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:-

فإن أصدق الحديثِ كلام الله، وخير الهدي هديُ محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:-

عباد الله:
اعلموا أن أعظم ما أمركم الله به هو التوحيد، وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والله عز وجل يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56].

فالله -سبحانه وتعالى- ما خلق الجن والإنس إلا لهذا الأمر العظيم، وهذه العبادة إنما هي لمصلحة العباد أنفسهم، فالله -سبحانه وتعالى- غني عن العالمين؛ لذلك قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57، 58]، وقال -سبحانه وتعالى-: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}[إبراهيم:8].

فالتوحيد: هو إخلاص العبادة لله، هو أعظم الحسنات التي لا يعدلها في الميزان شيء، فعن أنس بن مالك -رض الله عنه- قال: قال النبي ﷺ: ((قال الله تعالى: يا بن أدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة)).

وعلى النقيض من ذلك الشرك بالله تعالى، فهو أعظم الذنوب، وأكبر السيئات، يقول -عز وجل-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13]، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72]

ويقول -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }[النساء:48]، فتبين بهذه الآية وغيرها أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه ومات عليه، وما دونه من الذنوب فهو داخلٌ تحت المشيئة، إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه.

وذلك يوجب للعبد الخوف الشديد من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح، وأظلم الظلم، وتنقصٌ لرب العالمين وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال عز وجل: { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: قال النبي ﷺ: ((من مات وهو يدعوا من دون الله ندًا دخل النار)) رواه البخاري.

ولمسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار)).

والشرك عباد الله نوعان:

- شرك أكبر: يخرج من ملة الإسلام، ويكون صاحبه في الدنيا حلال الدم والمال، إلا إذا كان له عهدٌ من المسلمين، وفي الأخرة يكون خالدًا مخلدًا في نار جهنم، فقد حَرَمَه الله من جنته، وطرده من مغفرته ورحمته.

وهذا الشرك يحصل ويتحقق إذا توجه العبد بشيء من العبادات لغير الله -عز وجل- كَأَنْ يدعوا الأموات، والجن والشياطين لقضاء الحاجات وتفريج الكربات، يقول -عز وجل-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[الأحقاف:5].

ومنه: أن يذبح لغير الله لشفاء مريض أو لدفع شر ولي أو صاحب قبر، أو سيد يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]

وعن علي -رضي الله عنه قال-: قال النبي ﷺ: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).

ومن الشرك الأكبر أيضًا: ما يحصل اليوم وقبل اليوم عند قبور الأولياء والصالحين بزعمهم، أو عند قبور الصالحين كقبر علي، والحسين، والعباس، وغيرهم، أو ما يُفعل عند العتبات المنجسة، والمشاهد الكفرية حيث أصبحت كالقبور أوثانًا تعبد من دون الله في كثير من البلدان والأماكن كما فعل قوم نوح غلوًا في الصالحين: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23] وهؤلاء رجالٌ صالحون ماتوا، فَسَوَّلَ لهم الشيطان فصوروا تماثيل على هيئاتهم فعبدوهم من دون الله

وفي الحديث عنه ﷺ أنه قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).

ومن الشرك بالله: لبس الحلقة، والخيط، والتمائم، والحجب التي يصرفها السحرة والمشعوذون؛ لرفع لبلاء أو دفعه، أو وضع صور أو تماثيل، أو كفوف، أو رأس غزال أو شاة، أو شيء من ذلك، لرد الحسد والعين كل ذلك من الشرك بالله -عز وجل-، يقول عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزمر:38]

روى الإمام أحمد في مسنده، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ((ما هذه، قال: من الواهنة)) أي: من مرض ((فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا))

وله عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه-، أن النبي ﷺ قال: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له))

وفي رواية ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) والودع شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين، وقد دخل حذيفة على رجل فرأى في يده خيط من الحمى فقطعه، وترى قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106].

ومن الشرك عباد الله: النذر لغير الله لكونه عبادة يجب الوفاء بها فصرفها لغير الله شرك في العبادة، يقول عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7].

من الشرك كذلك: الاستعاذة بغير الله، فالاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام وهذا لا يكون إلا لله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1].

- من أنواع الشرك وهو النوع الثاني: الشرك الأصغر، وهذا نوع لا يخرج من ملة الإسلام، ولكنه خطير وإثمه عظيم وقد يجر إلى الشرك الأكبر، وهو في جملته أكبر إثمًا من الزنا والقتل وكبائر الذنوب. ومنه: الحلف بغير الله -عز وجل-، كالحلف بالآباء، وحياة فلان أو علان أو الأبناء، أو النبي، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أن النبي ﷺ قال: ((من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك)) رواه الترمذي.

وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: [ لَأَنْ أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا ]؛ وذلك أن الشرك أكبر ذنبا من الكبائر.

ومنه: الرياء وفي الحديث: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه، فقال: الرياء))

ومن الشرك الأصغر: الشرك في الألفاظ، قول: ما شاء الله وشاء فلان، لولا الله وأنت ما حصل كذا، واعتمدت على الله وعليك، وأنا بالله وبك، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((أن رجلًا قال للنبي ﷺ: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًا، بل ما شاء الله وحده))

وعن قتيبة أن يهوديًا أتى النبيَّ ﷺ فقال: ((إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)) رواه النسائي، وصححه.

أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه أما بعد:-

عباد الله:
إذا كان الشرك بهذه الخطورة فإنه يجب على المسلم أن يعرفه ليتجنبه، وذلك بأن يتعلم العقيدةً الصحيحة، ويقرأ الكتبُ التي فيها ويعرف ما يضادها من الشرك الأكبر، أو ينقصها من الشرك الأصغر، فإن من لا يعرف الشر يوشك أن يقعَ فيه، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: [ يوشك أن تنقض عرى الإسلام، عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ].

وكان حذيفة -رضي الله عنه- يقول: [ كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ].

وكيف لا يخاف الإنسان على نفسه من الوقوع في الشرك، وقد خاف من ذلك إبراهيم الخليل -عليه السلام- حين قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35، 36] ، مع أنه عليه السلام كسر الأصنام بيده، لكنه خشي على نفسه وأولاده الفتنة، وكيف لا يخاف الإنسان من الوقوع في الشرك

ونبينا ﷺ يقول لأصحابه: ((أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله، قال: الرياء))

فإذا كان الشرك الأصغر مَخُوفًا على أصحاب النبي ﷺ مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هم ودونهم في العلم والإيمان بمراتب، خصوصًا إذا عُرِفَ أنَّ كثيرًا من الناس لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون من أن الله هو الخالق الرازق، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص لا إله إلا الله عن كل ما سوى الله.

الدعاء ...