اعملوا ستا تضمنوا الجنة

الشيخ خالد بن ضحوي الظفيري

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعين ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعد:

عبادَ الله:
كثيرٌ من النَّاس يبحثُ عنِ الضمان في تجارته، وشرائه، وبيعه، بل يُفضلُ السلعة المضمونة على غيرها، ويبذلُ أسباب الحُصولِ على الضمان؛ حتى لا يخسر من دنياهُ شيء، فكيف عبادَ الله إذا كان الضامن رسولُ الله ﷺ الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]؛ وكيف لو كان المضمونُ عليه جنةً عرضها السماء والأرض فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٍ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر، وكيف إذا كانت الأمور التي يُنالُ بها هذا الضمان، أمورًا سهلة، وأعمالًا يسيرة، لا تتطلب جهدًا عظيمًا، ولا مشقةً كبيرة.

فتأملوا -رعاكم الله- نصَّ هذا الضمان العظيم، روى الإمام أحمد في مسنده، وغيره، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى- عن عبادة بن الصامت -رضى الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: - ((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ؛ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ))

إنَّه ضمانٌ بضمان ووفاءً بوفاء، "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ"؛ ستًا من الأعمال ما أيسرها!، وأمورٌ من أبوابِ الخير، ما أخفها!، وأسهلها على من سَهَّلَ الله عليه، من قامَ بها في حياته وحافظ عليها إلى مماته؛ فالجنةُ له مضمونة، وسبيله إليها مؤكدةٌ مأمونة {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد}[ق:35-31].

فأما الخصلة الأولى: من هذه الخصال فهي الصدق في الحديث؛ فالمؤمن صادقٌ في حديث، لا يعرفُ الكذب إليه سبيلا، ولا يزالُ محافظًا على الصدق في حياته وحديثه إلى أن يُفضي به الصدق إلى الجنة، كما قال رسول اله ﷺ: ((وعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا))

وأما الخصلة الثانية: فهي الوفاء بالعهد والالتزام بالعهد وهي سمةٌ من سمات المؤمنين، وعلامةٌ من علامات المتقين {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] فهم لا يعرفون خُلفًا في الوعود، ولا نقضًا للعهود، والوفاء صفةٌ أساسية في بُنية المجتمع المسلم، حيثُ تشمل سائر المُعاملات، فالمعاملاتُ كلها والعلاقات الاجتماعيةُ، والوعودُ والعهود كلها تتوقف على الوفاء، فإذا عدم الوفاء، انعدمت الثقة، وساء التعامل، وساد التنافر.

وأمَّا الخصلةُ الثالثة: فهي أداء الأمانة، وهي من أعظم الصفات الخُلقية التي مدح الله أهلها وأثنى عليهم، وعلى القائمين بها، وهي من كمال إيمان المرء، وحسن إسلامه، وبالأمانة يحفظ الدين، والأعراض، والأموال، والأجسام، والأرواحُ والعلومُ وغيرُ ذلك؛ ففي الحديثِ أن النبي ﷺ قال: - ((الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)) رواه أحمد.

فإذا سادت الأمانة في المجتمع عظم تماسكه، وقويَ ترابطه، وعمَّ فيه الخير والبركة، فاحذروا من عكس ذلك من الغش، والرشوة؛ فكلها من أسبابِ دخول النار.

وأمَّا الخصلة الرابعة: فهي حفظ الفروج أي من أن تفعل الحرام، أو تقع في الباطل {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7-5]؛ وفي حفظ الفروج؛ حفظ النسل؛ ومحافظةٌ على الأنساب؛ وطهارةٌ للمجتمع، وسلامةٌ من الآفاتِ والأمراضِ ووقوع العذاب.

وأمَّا الخصلةُ الخامسة: من هذه الخصال العظيمة، وهي غض البصر أي من النظرِ إلى الحرام والله -عزَّ وجل- يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]؛ وغض البصر فوائده عظيمة فهو يورث العبد حلاوة الإيمان، ونور الفؤاد، وقوة القلب، وزكاء النفس وصلاحها، وفيه وِقاية من التطلعِ للحرام، والتشوه للباطل فهو سبيل الوقوع في الفسادِ والزنا والفواحش.

وأمَّا الخصلةُ السادسة: فهي كف الأيدي أي عن إيذاء الناس، أو الاعتداءِ عليهم، أو التعرض لهم بسوء، والمؤذي لعباد الله؛ يمقته الله، ويمقته الناس، وينبذه المجتمع، وهو دليلٌ على سوء الأخلاق، وانحطاط الآداب، وإذا كف الإنسانُ أذاه عن الناس؛ دلَّ ذلك على نبيلِ أخلاقه، وكريم آدابه، وطيب معاملته، وحظيَ بعظيم موعودِ الله -عزَّ وجل- في ذلك، فكيف إذا سما خُلِقِ الإنسان، وعظم أدبه، ولم يكتفي بذلك حتى أماط الأذى عن سبيل المؤمنين، وجادتهم، روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: ((مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ؛ فأُدْخِلَ الجَنَّة))؛ رواه مسلم.

فهذه عباد الله أبواب الجنة مُشرعة، وسبيلها ميسرة، فلنغتنم ذلك قبل فوات الأوان، ولنستكثر لأنفسنا من الخيرات، قبل الممات.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه، أما بعد:

عباد الله، يجب على كل مسلمٍ ومسلمة أن يحافظ على عهده ووعده مع الله -عزَّ وجل- فإن الله لا يُخلف الميعاد، وإنما المطلوب من العبد هو وفاءه بالعهد والميثاق، ومن الضمانات، والمواثيقِ كذلك، ما ورد في حديث سهل بن معاذٍ -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ﷺ أنَّه قال: ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ))؛ رواه البخاري

(ما بين لحييه) هو لسانه الذي من حفظه نجى، ومن تكلم فيه بسخط الله كان من الهالكين، فقد قال ﷺ لمعاذ "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا"، فَقُلْتُ يَا نبيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ﷺ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".

فيجب على المسلم أن يُراعي ما يتكلم به ويحسب لذلك الحساب العظيم، فبكلمةٍ قد يهوي المسلم بها إلى النار، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنَّه قال: ((إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).

وكذلك يحفظ ما بين رجليه وهو (فرجه)، فإذا حافظ عليه من المعاصي كالزنا، والفجور وغير ذلك من الآثام، ولا يكن من العادين، فالله -تعالى- وصف المؤمنين بأنهم يُحافظون على فروجهم ولا يبتغون وراء ما أحل الله لهم.

وقد كان نبينا ﷺ يوصي الشباب بذلك كما في حديث ابن عباسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ، أنَّه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ": ((يَا شَبَابَ قُرَيْشٍ ، لا تَزْنُوا ، احْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، أَلا مَنْ حَفِظَ فَرْجَهُ فَلَهُ الْجَنَّة)).

الدعاء ...